شائع

كيف نشعر بالألم؟ وهل فقدان الشعور به نعيم أم هو الجحيم ذاته؟!


اعتقد الفيلسوف اليوناني أرسطو أن الشعور بالألم يحدث إثر دخول أرواح شريرة إلى الجسم عبر موضع الإصابة! لكن حقاً، ما هو الألم وما هو مغزى الشعور به؟ وهل ستكون حياتنا أفضل من دونه؟
وقفت “آشلن بلوكر” ذات الثلاثة عشر ربيعا بالمطبخ، ممسكة بملعقة تُقلب محتويات الإناء الموضوع أمامها على الموقد، وإذا بالملعقة تفلت من بين أصابعها لتنزلق داخل السائل المغلي. ومن دون أي بادرة تردد، لم يكن منها إلا أن غمست يدها المجردة داخل الإناء لاستعادة الملعقة!
لم تصرخ آشلن، بل إنها لم تشعر بأي شيء على الإطلاق! وذلك بالرغم من ظهور علامات احتراق واضحة على يدها فور إخراجها إياها من الإناء.
لعل هذه الواقعة ليست هي الأغرب، فعندما وُلدت آشلن لمْ تبكي كعادة الرُضّع. وعندما بلغت مرحلة التسنين، أخذت تعض بأسنانها الحادة النابتة حديثاً على لسانها الغض دون وعي أو إدراك بقوةٍ كادت معها أن تُمزقه دون أن تشعر.
أثارت تلك الوقائع قلق والديها، اللَّذيْن تكلفا عناء اصطحابها لعدد لا بأس به من الأطباء، بحثاً عن تشخيص أو تفسير منطقي لحالة ابنتهما المحيرة، وبعد سلسلة طويلة من الاختبارات والفحوصات الطبية، حصل الوالدان على ضالتهما. آشلن مصابة بحالة مرضية نادرة تُدعى “عدم الإحساس الخِلقي بالألم

نعمة أم نقمة؟

آشلن بلوكر وآخرون ممن يعانون الحالة المرضية ذاتها، يفتقرون إلى نعمة الألم. مما لا شك فيه أن الألم شعور بغيض، لكن الحياة دون المقدرة على الشعور بالألم هى الجحيم ذاته. فمن المفارقات أن المقدرة على الشعور بالألم وتمييز مصادره يعود إليها الفضل في بقائنا على قيد الحياة!
إن الإحساس بالألم يحمي الإنسان والعديد من الكائنات الحية الأخرى من المضاعفات المترتبة على التعرض لمؤثر ضار، كالتعرض لمصدر حراري أو طرف سكين حاد. وتكمن الأهمية الحيوية للإحساس بالألم في إنقاذ الكائن الحي من إمكانية الموت المحقق، وذلك عن طريق تنبيهه إلى مصدر الخطر، وإن كانت وسيلته في ذلك غير محببة إلى النفس.
يمكننا القول إن الشعور بالألم هو وسيلة التواصل التي يستخدمها جسمك من أجل إرسال رسائل تحذيرية مفادها بأنك لست على ما يرام، وهو الأمر الذي يتطلب منك اتخاذ إجراء لوقاية نفسك أو علاج الإصابة التي ألمت بك.
حكى والدا آشلن عن تلك المرة التي أُصيبت فيها بكسر في كاحلها، ومع ذلك راحت تمشي وتتحرك عليه لمدة يومين كاملين غير مُدركة لما أصابها قبل أن يُلاحظ الوالدان بأن ثمة خطأ ما
كل من هم على شاكلة آشلن غالباً ما يموتون في سن مبكر بسبب سلوكهم المتهور النابع من إحساسهم بأنهم لا يُقهرون! من بين هؤلاء صبي باكستاني كانت لديه حالة عدم الإحساس الخلقي بالألم. كان يرغب الصبي في إعداد مفاجأة لأصدقائه احتفالاً بعيد مولده الرابع عشر، فقفز من سطح منزله المكون من طابق واحد إلى الأرض! ثم نهض وأخبر من حوله أنه بخير.
وفي اليوم التالي توفي الصبي دون سابق إنذار. قد اتضح فيما بعد أنه كان ينزف داخلياً دون أن يدري، وكيف له أن يعلم، فلم يكن يشعر بأي ألم على الإطلاق!

جهاز المخابرات العصبية

في عالم موازٍ حيث تمتلك آشلن المقدرة على الإحساس بالألم، كيف كان لها أن تستوعب ذلك الألم الحاد الناشئ عن سخونة السائل المغلي؟ ما الذي كان من المفترض أن يحدث تحديداً بين لحظة لمسها للسائل وحتى تأوهها من الألم؟
في هذا الصدد، كان يعتقد الفيلسوف اليوناني أرسطو أن شعور الألم يحدث إثر دخول أرواح شريرة إلى الجسم عبر مكان الإصابة.. غير أن نتائج قرون من التقدم العلمي قد لا تتوافق مع وجهة النظر تلك!
لدى آشلن في عالمها الموازي، كما يجب أن يكون أيضاً لدى كل إنسان صحيح في جسده، يوجد جهاز مخابرات مُدهش! إنه الجهاز العصبي، الذي يقع الإنسان وبيئته المحيطة تحت مُراقبته الدقيقة والمُستمرة. يقوم بإدارة جهاز المخابرات العصبي قائد أعلى مُتمركز في برج مراقبة نحمله فوق أعناقنا، ذلك القائد هو “المُخ”، الذي يتخذ القرارات ويُصدر الأوامر.
ويحتل “الحبل الشوكي” المرتبة الثانية بعد المخ مباشرة في القيادة العليا لجهاز المخابرات العصبية، فضلاً عن أنه يشغل منصب النائب عنه في بعض الأحيان. ويعمل تحت إمرتهما عملاء مجندون في مراكز تجسس تنتشر في أنحاء الجسم، تلك هي “المُستقبلات” التي تستكشف المؤثرات البيئية المحتملة.
وتتم عملية التواصل بين القيادة العليا والعملاء من خلال شبكة اتصالات ضخمة تتكون من أسلاك عصبية دقيقة تتجمع في كابلات تُدعى “الأعصاب الطرفية”. وعبر شبكة الاتصالات تلك تستقبل القيادة العليا الرسائل من العملاء، وعبرها أيضاً تُرسل الأوامر لعضلات وأعضاء الجسم بلغة سرية مُشفرة تُدعى “النبضات العصبية
a2

يد في ماء مغلي!

إذا تعرض الجسم لمؤثر ضار كما في حالة وضع آشلن ليدها في سائل مغلي، لابد يستثير ذلك الأمر “المستقبلات الحسية للألم Nociceptors ” وهم العملاء المعنيون بمراقبة مصادر الخطر. هنا ينبغي أن يبعث العملاء برسالة استغاثة إلى القائد الأعلى فوراً!
تنتقل الرسالة عبر شبكة اتصالات “الأعصاب الطرفية”، ولكنها لا تصل إلى القائد الأعلى مباشرة، كما في أي هيكل وظيفي فإنها تصل أولاً إلى نائب القائد الأعلى؛ الحبل الشوكي. لا يتم ذلك الأمر كشكل من أشكال البيروقراطية الحكومية بل على العكس تماماً، يطّلع النائب على محتوى رسالة الألم، ولا ينتظر أوامر القائد الأعلى منعاً لإهدار مزيد من الوقت، إنما يرسل أوامره مباشرة إلى عضلات آشلن كي تنقبض وتبعد يدها عن مصدر الخطر، وفي الوقت ذاته فإنه يوجه الرسالة إلى القائد الأعلى على الفور
يتسلم القائد الأعلى الرسالة، فيحدد الموقع الذي أتت منه وهو يد آشلن الموضوعة في سائل مغلي، كما يحدد رد فعلها بأن تبكي أو تصرخ مثلاً، وأخيراً يقوم بتقييم تجربة الألم وتحليلها، فيقارن ألم لمس سائل مغلي بأنواع أخرى من الألم مثل قطع جلد الإصبع على حافة سكين حاد، وهل هو أشد أم أضعف وهكذا.
يخزن القائد الأعلى تجربة الألم تلك في الأرشيف الخاص به، ويجعل آشلن تعيش تجربة الألم بين الحين والآخر أثناء فترة شفائها من الحروق، كما يسترجعها من الأرشيف في وقت الخطر ويذكرها بها حين تقف في مواجهة إناء به سائل مغلي مرة أخرى، فلا تجرؤ على تكرار فعلتها تلك مرة أخرى!
ولا يسعنا هنا إلا أن نتساءل: أين هي الحلقة المفقودة إذن؟ من أين ينشأ الخلل الذي يعطل عمل تلك المنظومة المُحكمة في مثل حالة “آشلن بلوكر” أو أي من المصابين بعدم الإحساس الخلقي بالألم؟ أجرى العلماء دراسات عديدة من أجل البحث عن تلك الحلقة حتى عثروا عليها، وتبين أن ثمة عطل في شبكة الاتصالات!
اتضح أن المدان في تلك الحالة هو جين وراثي يُدعى SCN9A، وهو  الجين المعني بعملية إرسال نبضات الألم عبر شبكة اتصالات الأعصاب الطرفية. ونتيجة لذلك العطل الفني في الشبكة، يصبح الطريق مقطوعاً على أي رسالة استغاثة يتم توجيهها إلى المخ، تاركة المخ بمعزل عن إدراك أي مؤثر خارجي قد يضر بالجسم.

إلى أي مدى يمكنك تحمل الألم؟

إن الصبي الباكستاني الذي أسلفنا ذكره، كان قد اشتهر بتقديم عروض استعراضية لقدراته العجيبة بالشارع. حيث كان يغرز الخناجر في ذراعيه ويمشي على فحم مشتعل وسط ذهول المتفرجين! وهو الأمر الذي يدعونا إلى الاعتقاد أن حالة عدم الإحساس الخلقي بالألم قد تكون هى إحدى التفسيرات المُرجَّحة لبعض الأشخاص الخارقين للطبيعة من أمثال ذلك الصبي،  هؤلاء الذين يأكلون الزجاج والمسامير ويغرزون الأسياخ الحادة في وجناتهم وأعينهم، إما هذا أو أنهم يمتلكون مقدرة هائلة على تحمل الألم!
لماذا قد يبدو بعض الأشخاص أكثر تحملاً للألم عن الآخرين؟ وجدت عديد من الأبحاث أن مقدار تحمل الألم يتأثر بعديد من العوامل. فمثلاً، وُجد أن حالتي القلق والاكتئاب يمكن أن تجعل الفرد أكثر حساسية للألم. وتكون الحالة الصحية للفرد عاملاً أيضاً، فإن المدخنين والأشخاص الذين يعانون من البدانة تكون لديهم مقدرة أقل على تحمل الألم بالمقارنة بغيرهم. أما الأشخاص الرياضيون فيمكنهم تحمل مقدار ألم أكبر من هؤلاء الذي لا يمارسون الألعاب الرياضية.
إن الحساسية للألم يمكن أن ترتبط بأكثر العوامل غرابة أيضاً، كلون الشعر مثلاً! في دراسة منشورة في 2009، وجد الباحثون أن أصحاب الشعر الأصهب (الأحمر) يكونون أكثر حساسية للألم ويكونون في حاجة إلى كمية أكبر من المخدر في عمليات جراحة الأسنان.
لكن ما العلاقة بين لون الشعر الأحمر والألم؟ يقول الباحثون أن أصحاب الشعر الأصهب يكون لديهم تحور في جين وراثي يُدعى MC1R وهو الجين الذي يساعد في إكساب شعرهم تلك الحُمرة. في الوقت ذاته وجد أن MC1R هو أحد الجينات المتحكمة في مستقبلات الألم، وبحسب اعتقاد الباحثين، قد يكون التحور الذي يُكسب الشعر لونه، يؤثر أيضاً على وظائف الجين المرتبطة بالحساسية للألم
ويأتي الجنس أيضاً كأحد العوامل على قائمة حساسية الألم، حيث يبدي الذكور مقدرة أكبر على تحمل الألم أكثر من الإناث. في تجربة علمية، طُلب من المشاركين من كلي الجنسين أن يضعوا أيديهم في ماء مثلج لأطول فترة ممكنة، وكما كان متوقعاً، كان للذكور مقدرة أكبر على الاستمرار في غمر أيديهم في الماء المثلج لفترة أكبر من الإناث.
يعتقد بعض الباحثون أن الذكور يكون لديهم الدافع لعدم إبداء شعورهم بالألم بما يترجم إلى “رجولة” أكثر في وجه نظر المجتمع، بينما على العكس تساعد الرؤية النمطية للإناث باعتبارهم أكثر هشاشة ورقّة على دفعهم للتعبير عن ألمهم بانفتاح أكبر من الذكور.
سواءً تحملت مقداراً أكبر من الألم أم لم تتحمله، فقد شعرت به في المقام الأول وهو الشيء الأهم، لأنه قد يكون الخط الفاصل بين الحياة والموت. أتتساءل وما الداعي لتلك القسوة؟ ألم يكن من الأسهل أن يرسل الجسم رسالة تنبيهية بسيطة بوجود خطر ما عوضاً عن ذلك التعذيب؟ (كتنبيهات فيس بوك الصوتية أو اهتزازات الهاتف المحمول مثلاً!)
تسألني فأجيبك إن الألم هو الطريقة الأكثر فعالية لإدراك خطورة الموقف وإبداء رد فعل تجاهه، إنها الوسيلة الأكثر فعالية لتنبيه الجنس الذي لا يشعر بخطر اقتراب موعد الامتحان سوى ليلته، أو بجسامة موقف مصيري إلا بعد تحوله إلى كارثة بالفعل!
المصدر

Aucun commentaire:

Fourni par Blogger.